وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب، ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته لم يأثم بذلك، وقد يثاب بنيته.
ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية، فبانت زوجته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام.
ولو أكل طعاما حراما يظنه حلالا لم يأثم به، ولو أكله وهو حلال يظنه حراما وقد أقدم عليه أثم بنيته.
وكذلك لو قتل من يظنه مسلما معصوما فبان كافرا حربيا أثم بنيته، ولو رمى صيدا فأصاب معصوما لم يأثم، ولو رمى معصوما فأخطأه وأصاب صيدا أثم، ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار لنية كل واحد منهما قتل صاحبه.
فالنية روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
فبين في الجملة الأولى: أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية.
ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والإيمان والنذور وسائر العقود والأفعال.
وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع.
وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح، لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى، فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان، والثانية معلومة بالنص.
وعلى هذا فإذا نوى بالعصر حصول الخمر كان له ما نوى، ولذلك استحق اللعنة.
وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله، كان له ما نواه، فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله، ولا فرق في التحيل على الحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له، لا في عقل ولا في شرع، ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهي عنه".
أثر النية في المباحات والعاديات
ومن أهم ما تؤثر فيه النية: المباحات والعاديات، فإنها تتحول بالنية إلى عبادات وقربات، فالعمل لكسب الرزق في زراعة أو صناعة أو تجارة أو حرفة أو وظيفة، يغدو عبادة وجهادا في سبيل الله، إذا كان عمله ليعف نفسه عن الحرام، ويغنيها بالحلال.
والأكل والشرب واللبس والتجمل كذلك، إذا كان يستعين بذلك على طاعة الله، وأداء واجبه نحو ربه وأهله وأمته، وإظهارا لنعمة الله عليه، ففي الحديث: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
وقد مر بنا حديث سعد بن أبي وقاص: أن المؤمن يؤجر في كل عمل يبتغي به وجه الله، حتى في اللقمة يرفعها إلى فم امرأته.
وأعجب من ذلك: أن شهوة الجنس إذا قضاها المؤمن في الحلال، كان له فيها أجر ومثوبة عند الله، وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر".
النية لا تؤثر في الحرام
وإذا كان هذا هو تأثير النية في كل تلك المجالات، فمن المتفق عليه أنها لا تؤثر في الحرام، فحسن النية، وشرف القصد، لا يحيل الحرام حلالا، ولا ينزع منه صفة الخبث التي هي أساس تحريمه.
فمن أكل الربا، أو اغتصب مالا، أو اكتسبه بأي طريق محظور، بنية أن يبني به مسجدا أو ينشئ دارا لكفالة اليتامى، أو يؤسس مدرسة لتحفيظ القرآن، أو ليتصدق بهذا المال الحرام على الفقراء وأهل الحاجة، أو غير ذلك من وجوه الخير، فإن هذه النية الطيبة لا أثر لها، ولن تخفف عنه وزر الحرام، فقد أكدت الأحاديث الصحيحة: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا".
وفي حديث ابن مسعود: "إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث".
والحرام لا تطهره الصدقة ببعضه، بل لابد من الخروج عنه كله، ثم إن المال الحرام ليس مملوكا لحائزه حتى يجوز له التصدق منه، بل هو مملوك لصاحبه الأصلي، فلا يقبل منه إلا أن يرده إليه أو إلى ورثته.
وبهذا يتبين لنا أن الإسلام يرفض مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، ولا يقبل إلا الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة، فلابد من شرف الغاية وطهارة الوسيلة معا.
إخلاص النية أساس القبول
ولابد من استحضار النية من تجريدها من كل الشوائب والرغبات الذاتية والدنيوية، وإخلاصها لله تعالى في كل عمل من أعمال الآخرة، حتى يجوز القبول عند الله.
ذلك أن لكل عمل صالح ركنين لا يقبل عند الله إلا بهما:
أولهما: الإخلاص وتصحيح النية.
وثانيهما: موافقة السنة ومنهاج الشرع.
وبالركن الأول تتحقق صحة الباطن، وبالثاني تتحقق صحة الظاهر، وقد جاء في الركن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، فهذا هو ميزان الباطن.
وجاء في الركن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود على صاحبه، وهذا ميزان الظاهر.
وقد جمع الله الركنين في أكثر من آية في كتابه، فقال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى)، (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن).
وإسلام الوجه لله: إخلاص القصد والعمل له.. والإحسان فيه: أداؤه على الصورة المرضية شرعا، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.
وقد مر بنا قول الفضيل بن عياض: "إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا وصوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة .. ثم قرأ الفضيل قوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحد).
ومما روى عن ابن مسعود: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قول وعمل ونية إلا مما وافق السنة.
وقال ابن عجلان: لا يصلح العمل إلا بثلاث: التقوى لله، والنية الحسنة، والإصابة (يعني: أن يؤدي على وجه الصواب شرعا).
نعلم مما تقدم أن إخلاص النية لا يكفي وحده لقبول العمل، ما لم يكن موافقا لما جاء به الشرع وصحت به السنة، كما أن ورود الشرع بالعمل لا يرقى به إلى درجة القبول ما لم يتحقق فيه الإخلاص، وتجريد النية لله عز وجل، وأي عمل من أعمال الآخرة فقد الإخلاص، فلا قيمة له في ميزان الحق، يقول ابن عطاء الله: الأعمال صور قائمة (كالتماثيل) وروحها وجود سر الإخلاص فيها.
بدون الإخلاص إذن لا يقبل عمل مهما يكن ظاهره الخير والصلاح.
بناء المسجد لغرض فاسد
وأضرب لذلك مثلين:
الأول: هو بناء مسجد.
فلا ريب أن للمسجد مكانته وأثره في الحياة الإسلامية، فهو دار للعبادة، ومدرسة للدعوة، ومنتدى للتعارف، ولهذا حث الإسلام على إنشاء المساجد وعمارتها، والعناية بها، ووعد على ذلك بأجزل المثوبة عند الله، حتى جاء في الحديث: "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة".
ولكن الحديث النبوي الشريف ينبهنا على أن هذا الثواب لمن بنى مسجدا "يبتغي به وجه الله" لا لكل من بنى مسجدا.. فإذا كان بناء المسجد لغرض فاسد، وقصد سيئ، فإنه يكون وبالا على من أقامه وأسسه، إن النية الخبيثة تنضح على هذا العمل الطيب فتنحرف به، وتحيل خيره شرا، وأجره وزرا.
وفي هذا الأمر جاءت قصة "مسجد الضرار" التي نزل فيها قرآن يتلى، ليبين للناس أن "النوايا الشريرة" تفسد المؤسسات الصالحة، وتذهب بكل ما فيها من خير، ونعني بالمؤسسات الصالحة: التي تتخذ الصلاح عنوانا لها ومظهرا، أو التي يفترض فيها الصلاح والخير والتقوى، قال تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون، لا تقم فيه أبدا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين).
الجهاد لغرض دنيوي
والمثل الثاني: هو الجهاد.
وهو أفضل عبادة يتطوع بها مسلم ويتقرب إلى ربه بها، ومع هذا لا يقبله الله حتى يخلص من كل الشوائب الدنيوية، مثل مراءاة الناس، أو إظهار الشجاعة، أو الحمية للعشيرة أو الأرض أو نحو ذلك.
وإن المرء قد يلبس لبوس المجاهدين، ويقاتل في صفوفهم، حتى يقتل على أيدي الكفار ثم لا يعد عند الله شهيدا، وما ذلك إلا لأن نيته لم تتجرد لإعلاء كلمة الله، وداخلتها مقاصد وبواعث أخرى.
وقد جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري: أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". ومفهوم هذا: أن كل قتال آخر ليس في سبيل الله.
صعوبة تحقيق الإخلاص
ولا تحسبن يا أخي المسلم أن التحقق بالإخلاص أمر يسير، وأنه في متناول اليد لكل من أراد، وأن تحصيله ممكن بأدنى جهد وبلا معاناة ولا مجاهدة، فهذا بعيد عن الحقيقة.
والواقع أن تحقيق الإخلاص ليس بالأمر الهين، كما يظن بعض الذين يتعاملون مع السطوح لا مع الأعماق، ومع القشور لا مع اللباب.