عزة نفس
للقاضي : علي بن عبد العزيز الجرجاني
1- يقولونَ لِي : فيكَ انقباضٌ[1]، وإنَّما ... رَأوْا رجلاً عن موقفِ الذُّلِّ أحجما
2- أرى الناسَ مَنْ داناهُم[2]هانَ عندَهُمْ ... وَمَنْ أكْرَمَتْهُ عزةُ النفسِ أكْرِما
3- وَلَمْ أقْضِ حَقَّ العِلْمِ إنْ كانَ كُلَّما ... بدا طمعٌ صَيَّرْتُهُ[3] لِيَ سُلَّما
4- إذا قيلَ : هذا مَوْرِدٌ ، قُلْتُ : قَدْ أرِى ... وَلكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّما
5- وَلَمْ أبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العلمِ مُهجَتِي ... لأخْدِمَ مَنْ لاقيتُ ، لكنْ لأُخْدَما
6- أأشقَى بِهِ غَرْساً ، وَأجنيهِ ذِلَّةً ؟ ! ... إذاً ، فاتِّباعُ الجَهْلِ قَدْ كانَ أحْزَما
7- وَلوْ أنَّ أهْلَ العِلمِ صانُوهُ صانهُمْ ... وَلَوْ عظَّموه في النفوس لَعُظِّما
8- ولكن أهانوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاه[4]ُ بالأطماعِ حتى تَجَهَّما
معنى الأبيات :
1- يتعجب الشاعر من اتهام الناس له بالعزلة والبعد عن الناس وعدم
الانخراط فيما بينهم ، مع أن ابتعاده لم يكن إلا عما يورث نفسه الذل .
2- اتخذت هذا الموقف لأنني رأيت أن كل من رضي بكل ما عليه الناس
فدخل معهم ووافقهم على كثير مما هم عليه تهون نفسه عندهم ، ومن كان عنده عزة
نفس تبعده عن مواطن الشبهة أكرمه الناس .
3- والذي يدفع كثير من العلماء إلى مجاراة الناس هو المطامع المادية ، وهي
لا تنتهي ولا أستطيع قضاء حق العلم إذا كنت كلما لاح مطمع من هذه المطامع
جعلته سلّماً لنفسي .
4- لذلك ، تجاهلت هذه المطامع المُذلِّة التي تتنافى مع شرف العلم ، فإذا
أشار لي مشير إلى أحد هذه الموارد قلت له : إنني أرى ما ترى ، ولكن يمنعني من
الورود نفس حرة تصبر على العطش وتتحمله .
5- إن كثيراً من هذه المطامع تؤدي إلى خدمة من لا يستحق الخدمة ، وإلى
مداراة أصحاب الدنيا وتسخير العلم لمصالحهم ، مع أني لم أتعلم إلا من أجل إكرام
نفسي لا إهانتها بذلك .
6- هل أشقي نفسي في طلب العلم ، لأجني لنفسي الذل ؟ مادام الأمر كذلك
فالبقاء على الجهل كان أفضل من العلم الذي يكون سبباً في هوان صاحبه .
7- لو أن العلماء حفظوا علمهم ، وترفعوا به عما لا يليق لحفظهم ، ولكان
ذلك سبباً في صيانتهم ومعرفة الناس حقهم ، ولو نظروا إلى العلم نظرة إعظام
وإكبار لكان عظيماً وكبيراً في أعين الناس .
8- ولكن الواقع أن كثيراً من العلماء أهان العلم بتصرفاته ، فهان العلم في
نظر الناس وحسبوا أن العلماء كلهم على هذه الشاكلة ، وأصبح العلم وبالاً على
العلماء ومصدر شقاء لهم ، حتى ليكاد كثير منهم أن يتمنى لو لم يتعلم .
في جو الأبيات :
هذه أبيات تقف شامخة -بعددها القليل- على امتداد الشعر العربى كله ، بل
إنها لتكاد تكون كذلك في الأدب العالمي ، من حيث بساطة التعبير وصدقه ، ومن
حيث جمال الأسلوب وترفعه .
وقائلها هو القاضي أبو الحسن ، علي بن عبد العزيز الجرجاني ، قاضي الريَّ
المتوفى سنة 392 هـ ، وكان عالماً ، أقرَّ له الناس بالتفرد ، وكان إلى ذلك شاعراً
محسناً ، وناقداً دقيقاً ، وكتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه) من أشهر كتب النقد
في الأدب العربى ، وهو مطبوع .
وهي أبيات تظل جديدة ، لأنها لصيقة بموضوع حيّ ، وقضية مصيرية ،
وهي علاقة العالم بغيره من الناس ، سواءً ارتفعوا أو سَفلوا .
وسبب آخر يجعلها جديدة دائماً ، وهو ما يراه الإنسان في كل عصر من
تهاون بعض العلماء وتهالكهم على أقدام أصحاب الدنيا أو السلطة ، ودوسهم المعاني
الشريفة التي يقتضيها العلم .
إن الشاعر -هنا- صاحب قضية ، ذو شخصية واضحة قوية ، رسم حدودها
بهذه الأبيات القليلة ، التي تقارب غرض (الفخر) ، ولكنها ما تلبث أن تنأى عما
تواطأ عليه أصحاب الفخر التقليدي من الشعراء ، من موضوعات يغلب عليها
الادعاء والتطاول .
وبروز شخصية القاضي في هذه الأبيات لم يؤثر على شاعريتها القوية ،
فالحِجاج بالدليل والبرهان أضاف إلى جمالها قوة ، وأعطانا حقيقة مفادها : أنه ليس
صحيحاً بإطلاق أن شعر العلماء يكون متكلفاً يفتقر إلى الشاعرية الأصيلة .
إن الشاعر يقدم في أبياته (مرافعة) جامعة عن نفسه ، ويدافع دفاعاً فذاً عن
قدسية العلم التي وضع تحت وطأة المطامع والزلفى ممن لا يستحق .
هاهم بعض الناس يضيقون ذرعاً بعدم خوضه في غمار الناس ، فيلصقون به
تهمة الانقباض والانعزال ، وهى تهمة قاسية ، قد تلقى ظلالاً على شخصية العالم
في نظرهم فيسارع إلى تخطئة من اتهمه بذلك ، وتوجيه مابدا من انقباضه التوجيه
الصحيح ، فما حسبه هؤلاء انقباضاً ليس على إطلاقه ، وإنما هو بعد عن مواقف
الذل ، ومواطن الهوان .
والذي دعا الشاعر إلى هذا الموقف هو رصيد التجارب المتراكمة ، التي
علمته أن الناس يستهينون بمن يخوض معهم كل مخاض ، في جدهم وهزلهم ،
ويوقرون من يقترب منهم بقَدَر ، ويخاطبهم بحساب .
ولعلنا نلحظ أن هؤلاء المنتقدين يعيبون على الرجل نوعاً من الابتعاد بعينه ،
وهو الانكماش عن صاحب السلطان وعدم الانضمام إلى حاشيته ، فيرد عليهم قائلاً :
إن للعلم حقوقاً ، ومن أظهر هذه الحقوق صيانته عن المطامع ، والبعد عن
التزلف والترفع به عما لا يليق بحملته ، وإذا ما تورطتُ مع من دَلَفَ إلى أبواب
السلاطين ، أو أهل الدنيا ، ابتغاء ما يتساقط من موائدهم من فتات ؛ أكون قد
أهدرت حق العلم وخنت الأمانة .
ويبدو أن الشاعر لم ينأ بنفسه عن هذه المواطن لأنه ليس بحاجة إليها ؛ بل
هو محتاج إلى ذلك ، ولكنها نفس حرة ، ترى الموارد مُشْرَعَةً ، ولكنها تلمح من
وراء هذه الموارد هواناً ومِنَّة ، وضعة وصغاراً ، وإنفاقاً لشيء ثمين في سوق
رخيصة ، فتتسلح بالصبر على الظمأ ، يدفها إلى ذلك إرادة قوية ، وشخصية
متماسكة ، وهذا معنى يُنْظَرُ فيه إلى بيتّي عنترة السائِرَين :
لا تسقني ماءَ الحياة بذلةٍ ... بل فاسقني بالعز كأسَ الحنظلِ
ماءُ الحياةِ بذلةٍ ، كجهَنمٍ ... وجهنمٌ بالعز أطيبُ منزلِ
وما أبلغ كلمة الفضيل بن عياض في هذا المجال : (إذا رأيت العالم يتردد
على أبواب السلاطين فاعلم أنه لص) .
ثم يلفت الشاعر نظر الذين ينكرون عليه موقفه ، من دهماء الناس ، أو من
أدعياء العلم ، الذين يغرهم بريق المناصب عن الحق ، ويغرقون أنفسهم في حمأة
التَّرَخُّص والتأويل فيقول :
لم أتعب عقلي ، وأجهد نفسي في طلب العلم من أجل أن أذلها في خدمة من لا
يستحق الخدمة طلباً لمال ، أو حرصاً على جاه أو منصب ؛ وإنما جهدت في طلب
العلم ليخدمني هؤلاء الذين يراهم كثير من الناس فن مقام من يستحق الخدمة بينما
أرى أن مرتبة العلم لا تدانيها مرتبة أبداً . وهذا إبراهيم بن أدهم يقول في ذلك :
(لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف) ، يعني : العلم والتلذذ به .
ثم يجسد الشاعر القضية تجسيداً بدهياً واضحاً فيقول :
أأجهد نفسي وأتعبها في تحصيل العلم -كمن يتعب في إنفاق الجهد الجهيد على
غراس ، حتى إذا حان إثمار هذه الغراس اجتنى منها ثمر الذل ؟ ! لاشك أن من
يعمل لتكون نتيجة عمله هذه النتيجة إنسان أخرق ، وإن عيشاً في ظلال الجهل خير
من علم يورث الذل ويكون وبالاً على صاحبه .
وإن ما نرى من هوان العلم والعلماء ، (وهذه القضية بدأت من قديم ، ثم
زادها الزمن ترسخاً ووضوحاً إلى يومنا هذا) ونظرِ الآخرين إليهم نظرة ازدراء ،
سببه نابع من نفوس هؤلاء العلماء الذين لم يصونوا العلم ، ولم يحفظوه عن أن
يهان ويتمرغ على أعتاب أصحاب الدنيا ، فلو اعتقد هؤلاء العلماء شرفَ العلم ،
وعظمَتَهُ في نفوسهم ؛ لعظّموه في واقع حياتهم ، ولكنهم وضعوه في غير موضعه ،
واستهدفوا به ما رخص من الأغراض ، وما قرب من الغايات ، وسخّروه من أجل
الدنيا ، فهان في نظهر الناس ، ممن لا يعرف للعلم حقيقة ؛ فأهانوا حَمَلَتَهُ ،
وعدّوهم من سَقَطِ المتاع .
وبعد ، فهذه أبيات القاضي الجرجاني ، تقف معْلَمَةً بارزة في أدبنا العربي ،
بصدقها وجلالها وعظمة موضوعها ، وما أجدر طلبة العلم ، بُلْهَ العلماء ، أن
يتخذوها دليلاً لهم في حياتهم ، وخلال علاقتهم بالناس ، لأنها نفحة من الأدب الخالد
الذي استظل بظل مفاهيم الإسلام العظيمة .
منصور الأحمد
__________
(1) انقباض : انزواء ، وابتعاد عن الناس ، أحجم : توقف ولم يتورط .
(2) داناهم : اقترب منهم وخالطهم دون تحفظ .
(3) صيرته : جعلته .
(4) محياه : وجهه ، تجَهَّم : أصبح مشوهاً عبوساً غير جميل .