إن التربية الريادية تتطلب تعويد ذوي القابليات والذكاء من المؤمنين على ا لتفكير الحر، و القياس، و الاستقراء، و التحليل، والتعليل، وتمرينهم على استعمال القواعد المنهجية والمنطقية، وهذا يتطلب تنمية قابلية الوصف الدقيق لديهم، واكتشاف العلاقات وفهم الواقع، وكل ذلك من أسس الاجتهاد وطرائقه.
لكن هذا التعويد والتمرين لا يصح الاستطراد فيهما بشكل متصل، بل لابد من أن يتدخل الأمراء في اتخاذ القرارات الواضحة الجازمة، شفقة على المتدربين الصاعدين، وتخفيفاً عنهم، لئلا ترهبهم لحظات التردد عند منعطفات الطريق المهمة وفي اللحظات الحاسمة.
بمعنى: أن تدربنا لا يكون في فراغ، بحيث نجعله مقدمة لتنفيذ وممارسة لم يحن أوانهما بعد، بل هو تدرب فى ظل إمارة متصدية وعمل سائر، وأن التنفيذ مختلط بإنماء الفكر وبالتخطيّط اختلاطا دائماً، وجزء من التدريب أن يلحظ المتدرب اتخاذ الإمارة للقرار الفعلي، ليس أن يلحظ مجرد التمثيل الافتراضي.
إن الحرية اللازمة للمتدربين لا يمكن أن تكون تامة، وليس من مصلحتهم ذلك، وبالتالي فإن حدود دار الشورى لا يمكن أن تكون واسعة مترامية الأطراف، لأن القرار يصعب عندئذ، لكثرة المتناظرين، أو يكون الوصول الى القرار ببعض تكلف، فيكون ثَم الطيش لا الاجتهاد ، وتكون نزعة النفس في المشاركة الشورية قد لُبيت واُشبعت، على حساب الصواب.
قد يقول قائل: إن الرهبة التي تعتري الصاعد في اللحظات الحاسمة هي جزء من المعاناة التي يجعلها فقه الدعوة نقطة ارتكاز التربية الريادية، وبالتالي فإن سعة الممارسة الشورية مطلوبة.
فنقول: نعم، هي جزء، وهي مطلوبة، ولكن كمشاهدة ومتابعة، بحيث يرى الصاعد عملية نضوج القرار، ويتاح له أن يجرب مقادير استيعابه لدلالات الظرف، فيقول قوله متمكناً، مشيراً، ولكن بنيّة التدرب على القول، وأما صناعة القرار في أصل الأمر فملك من خرّجته من قبل هذه المعاناة بنجاح، إذ ليس كل متدرب متخرج، ولا كل ذكي مؤهل للقول، ولا كل من عانى من ضغطين وصل، لأن حق صناعة القرار نتاج معادلة صعبة نادرة التحقق، أولها النية الخالصة وحسن التوجه، وآخرها المعاناة والتدرب، وبين البداية والنهاية ذكاء وعلم ونفس سوية، ومعرفة أفقية بالساحة العريضة، وتأمل عمودي في التاريخ الممتد.