الحوار أقوى من البندقية
إن الحوار يكون -أحيانًا- أقوى من الأسلحة العسكرية كلها؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية الذاتية؛ بل ربما أفلح الحوار فيما لا تفلح فيه الحروب الطاحنة.
وفيما يلي حادثتـان تاريخيتان قديمتـان تدلان على ذلك. وكلا الحادثتين تتعلق بطائفة من الخوارج، ومن المعروف في تاريخ الإسلام أن الخوارج من أكثر الناس ضراوة وقوة، وشجاعة وبسالة في الحروب، مما جعل الناس يرهبونهم.
حتى نساء الخوارج، كن يبدين من ضروب البسالة والشجاعة في الحروب ما تدهش له العقول له:
فلننظر كيف فعل بهم الحوار؟!
- الموقف الأول:
ذكر الباقلاني، والسكوني، والشاطبي، وغيرهم، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعث ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج المسمين بالحرورية، فذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه، وعليه حلة جميلة، فلما أقبل، قالوا له: يا ابن عباس، ما الذي جاء بك؟ وما هذه الثياب التي عليك؟
- فقال: أما الثياب التي عليَّ، فما تنقمون مني؟ فوالله، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه حلة ليس أحد أحسن منه، ثم تلا عليهم قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَات منَ الرِّزْق قُلْ هِيَ للَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالصَةً يَوْمَ الْقيَامَةِ) [الأعراف:32].
- قالوا: ما الذي جاء بك يا ابن عباس؟
- قال: جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس فيكم أنتم يا معشر الخوارج واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: علي بن أبي طالب-، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم، وأبلغهم عنكم، فأنا رسول -أي وسيط- بينكم وبينهم.
- قال بعضهم: لا تحاوروا ابن عباس، لا تخاصموه، فإن الله تعالى يقول عن قريش: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف:58]، فلما خافوا من الهزيمة قالوا: اتركوا هذا، هذا جدل إنسان خَصِم! وقال بعضهم: بل نكلمه، ولننظر ماذا يقول؟
- قال ابن عباس رضي الله عنه: فكلمني منهم اثنان أو ثلاثة، فقال لهم: ماذا تنقمون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟
- قالوا: ننقم عليه ثلاثة أمور.
- قال: هاتوا.
- قالوا: الأول: أن علي بن أبي طالب حكَّم الرجال في كتاب الله، يعني: بعث حكمًا منه، وحكمًا من معاوية رضي الله عنه، وقصة التحكيم معروفة( )، والله تعالى يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ) [الأنعام:57].
- قال: هذه واحدة فما الثانية؟
- قالوا: الثانية: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل ولم يسْبِ، -أي قاتلهم وما سبى نساءهم-، فلئن كانوا مسلمين فقتاله حرام، ولئن كانوا كفارًا فلماذا لم يسبهم؟
- قال: وهذه أخرى، فما الثالثة؟
- قالوا: الثالثة: أنه نزع نفسه من إمرة المؤمنين لمـَّا كتب الكتاب، فلم يكتب أمير المؤمنين؛ بل قال: علي بن أبي طالب. - قال: أوقد فرغتم؟
- قالوا: نعم.
- قال: أما الأولى: فقولكم: حكَّم الرجال في كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول في محكم التنـزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) [المائدة:95]، فذكر الله تعالى حكم ذَوَيْ عدل فيما قتله الإنسان من الصيد، سألتكم الله تعالى! التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم، أم التحكيم فيما قتله الإنسان من الصيد؟
- قالوا: لا؛ بل التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم.
- قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [النساء:35]، ناشدتكم الله تعالى! التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أهم، أو التحكيم في بُضع امرأة؟
- قالوا: لا، التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم.
- قال: انتهت الأولى؟
- قالوا: نعم، فالثانية؟
- قال: أما الثانية، فقولكم: قاتل ولم يسْبِ، هل تسْبون أمكم عائشة رضي الله عنها -لأنها كانت في الطرف الآخر-، وتستحلون منها ما يستحل الرجال من النساء، إن قلتم ذلك كفرتم، وإن قلتم ليست بأمِّنا كفرتم -أيضًا-؛ لأنها أم المؤمنين، فاستحيوا من ذلك وخجلوا.
- قالوا: فالثالثة؟
- قال: أما قولكم: خلع نفسه من إمارة المؤمنين، وإذا لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد كتاب الصلح مع أبي سفيان وسهيل بن عمرو في صلح الحديبية، قال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فمحا النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، وقال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ( ).
فرجع منهم عن مذهب الخوارج ألفان، وبقيت بقيتهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه( ).
فانظر كيف أثَّر الحوار الهادئ القوي العميق في مثل هذه الرؤوس اليابسة الناشفة، حتى رجع منهم ألفان إلى مذهب أهل السنة والجماعة في مجلس واحد لم يستغرق ربع ساعة.
- الموقف الثاني:
وهو أيضًا يتعلق بطائفة الخوارج العنيدة.
فإنه لما بقيت منهم في الموصل بقية، كتب إليهم عمر ابن عبد العزيز رحمه الله -الخليفة الأموي العادل- ينكر خروجهم، ويقول لهم: "أنتم قليل أذلة"، فردُّوا عليه وقالوا: أما قولك: إنا قليل أذلة، فإن الله تعالى يقول لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأََرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26]، فردوا عليه بذلك.
فوجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهًا اسـمه: عون ابن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.
- فقال لهم عون بن عبد الله: إنكم كنتم تطلبون حاكمًا في مثل عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلمَّا جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه.
- قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبـرأ ممن قبله ولم يلعنهـم، فلم يلعن علي بن أبي طالب، ولا معاوية، ولا بني أمية؛ لذا فنحن نحاربه -وهذا هو مذهب الخوارج-.
- قال لهم: كم مرة في اليوم تلعنون فيها هامان؟
- قالوا: ما لعنّاه قط!
- قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بنى صرحه بأمره، ولا يسعكم أن تتركوا لعن أهل قبلتكم، إن كانوا أخطأوا في شيء، أو عملوا بغير الحق؟!!
فسكتوا ورجع منهم طائفة كبيرة.
فَسُرَّ بذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وقال لهذا الرجل: لماذا لم تحتجّ عليهم بعدم لعن فرعون؟ - قال: لو قلت لهم: لماذا لا تلعنون فرعون؟ ربما قالوا: إننا نلعنه، أما هامان فقلَّ من يلعنه علىألسنة الناس، فلذلك اخترته.
فسكت هؤلاء الخوارج، حتى خرجوا في ولاية يزيد ابن عبد الملك، فقاتلهم( ).
والشاهد هنا كما يقول السكوني في (عيون المناظرات): "فكانت حجة عمر أبلغ من قتالهم بالسيف".
وهكذا يتبين أن الحجة القوية، والحوار الهادئ المقنع الرزين، من صاحب عقل وفهم وعلم، يفعل في كثير من الأحيان ما لا تفعله السيوف ولا المدافع والطائرات .
* * *